خرائط منتصف الليل - هذه أثينا... وتلك أعمدة الأولمب
خرائط منتصف الليل / علي بدر
الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2005
#مختارات_من_أدب_الرحلة
ينتقيها ويعتني بها الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي راعي ومؤسس #جائزة_ابن_بطوطة لأدب الرحلة
"هذه أثينا... وتلك أعمدة الأولمب"
هذه أثينا التي أحببت هدوءها العظيم، وتلك أعمدة الأولمب التي أحببت قوتها التي تجاوزت العقبات وانتصرت عليها. هذه أثينا التي أحببتها امرأة خطرة ومتذبذبة، امرأة حكمت عليها آلهة الأولمب بقدر مشؤوم، فعاشت مصيرها الضائع بين الأبطال الأسطوريين والعشاق والحكماء والسياسيين والشعراء والفلاسفة.
هذه أثينا المتمرّدة التي تخَبّطت بين عالم الفن وعالم المجتمع، بين البوهيمية والأرستقراطية، بين التقاليد والانحراف، وتلك ماريلا الفنانة اليونانية المرهفة التي قَدّمت لي نفسها بأسلوب رائع ومتوهّج، قدمت لي نفسها بين ثلاث أزهار صفر ذابلات في مزهرية، وهي تبحث في أثينا عن أحجار فقدت سحرها الذي كانت تمتلكه، وهي تبحث في جسد أثينا.. المدينة الشابة عن نكهة الحياة، تبحث في البحار عن اللقى لا عن العالم وقوانينه وأعرافه، تبحث عن أثينا التاريخية التي أضعناها، عن متربول العالم القديم الذي فقدناه، عن جوهر العالم العظيم وحكمته ومجده، عن جوهر وجوده وحبه الذي يبتكر العالم، العالم الذي تقف فيه وحيدة فينفتح الشعر أمامها.
* * *
لقد أدركت عند وصولي أثينا سفر الكلمات والفضاءات والعوالم المتنوعة، أدركت الرحلة إلى العالم القديم، الرحلة إلى العالم المجهول، الرحلة الاكتشاف، الرحلة المعرفة.
وقفت أمام بائعة عجوز في كيوسك خشبي في ساحة أمونيا، وسألتها.
"هل لديك خارطة مفصّلة لشوارع أثينا؟".
"نعم.." وناولتني الخارطة، ثم عَدّلت نظارتها على عينيها وقالت:
" ستقرأ الخارطة ومع ذلك ستضيع في شوارع أثينا".
كنت أتصور بأني سأكتشف أثينا من خلال الخرائط والكتب والأوراق، وبعد أشهر ضحكت على نفسي وأصبحت ضائعاً مثل أي ضائع آخر في أثينا.
أدركت أن أثينا لا يمكننا أن نكتشفها إلا من خلال الضياع في شوارعها ومع نسائها وفي قصائد شعرائها، أدركت في أثينا شيئاً من الحس الخالد الذي يتحَدّد على الدوام بلغة كيانه ووجوده. الشعور العظيم الذي يتجَدّد بلغة معانيه ودلالاته، أدركت في أثينا الشعر الخالد والأبدي والذي هو تغير وتجدد وهو اكتشاف ومعرفة، وهو حس ولغة، شعور ووجود. لقد أدركت عند وصولي الأكروبول الجمال الشاحب للشاعرة اليونانية التي لم تفقد الاطلالة الشهوانية لجسدها وعينيها الخضراوين.
* * *
لهب هائل في أثينا الصباح، الوصول من المحطة، والجلوس في مقهى صغير بمقاعد ذات أذرع مكسوّة بالساتان الأبيض مع أريكة واسعة، لهب هائل في لقائي الأوَّل بماريلا التي كانت ترتدي ذلك اليوم ملابس مسرحية، ترتدي الملابس القديمة التي أعادت إلى ذاكرتي ثياب أنتيجون ومصيرها التراجيدي الضائع، ومنذ العبارات الأولى لتعارفنا سحرني حديثها الفاضح الغريب عن جسدها والإباحية الخفية للأثينيين، سحرتني لغتها الفرنسية البالغة الهشاشة، والجارحة بوضوح. ومن النافذة الطويلة، كنا ننظر إلى عابرات السبيل وقد حَقّقن في التنورات المحززات بالدانتيلا الحياة التي لا معنى لها إلا بنفسها، والحماسة المتوقدة التي تحقق في "حب الرجل للمرأة" أكبر المعجزات.
* * *
أثينا التي لا تعرف في الشعر المبالغات، هي التي كانت نائمة مستلقية على البحر، كما رآها سيفيرس مرة فقال لها:
"أنا أعبد الشاعر الذي صنعك هكذا مستلقية على البحر..".
كانت مستلقية على رمال البحر وقد صنع سيفيرس منها شعراً، كما صنع جوليان غراك شعراً من مدينة السرت، ومن أسر أورسينا، ومن البيت الريفي على شاطئ نهر زنتا. تذَكّرت عند وصولي أثينا شعر ريتسوس، تذكرت حنينه الخالد، وارتجافته الأولى، وطاقة فكره. وأدركت طريقين في شعره.. واحد يفضي إلى البحر، وآخر يفضي إلى الأكربول، وأنا بينهما ضائع ومضيَّع.
أدركت في أثينا جوهر الشعر وهو يقترب من السفر والرحلة والإقلاع والطيران والمنفى والتغَيّر والتجَدّد، أدركت جوهر الشعر وهو يقترب من اكتشاف المدن الغريبة والمجهولة والتي نطأها أول مَرَّة في السفر والرحيل، وأدركت جوهر الشعر وهو يقترب من المرأة أيضاً.. المرأة الرحيل، والمرأة المدينة المجهولة التي نرحل إليها بالحب والشعر والسفر.

خرائط منتصف الليل / علي بدر
الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2005
#مختارات_من_أدب_الرحلة
ينتقيها ويعتني بها الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي راعي ومؤسس #جائزة_ابن_بطوطة لأدب الرحلة
"هذه أثينا... وتلك أعمدة الأولمب"
هذه أثينا التي أحببت هدوءها العظيم، وتلك أعمدة الأولمب التي أحببت قوتها التي تجاوزت العقبات وانتصرت عليها. هذه أثينا التي أحببتها امرأة خطرة ومتذبذبة، امرأة حكمت عليها آلهة الأولمب بقدر مشؤوم، فعاشت مصيرها الضائع بين الأبطال الأسطوريين والعشاق والحكماء والسياسيين والشعراء والفلاسفة.
هذه أثينا المتمرّدة التي تخَبّطت بين عالم الفن وعالم المجتمع، بين البوهيمية والأرستقراطية، بين التقاليد والانحراف، وتلك ماريلا الفنانة اليونانية المرهفة التي قَدّمت لي نفسها بأسلوب رائع ومتوهّج، قدمت لي نفسها بين ثلاث أزهار صفر ذابلات في مزهرية، وهي تبحث في أثينا عن أحجار فقدت سحرها الذي كانت تمتلكه، وهي تبحث في جسد أثينا.. المدينة الشابة عن نكهة الحياة، تبحث في البحار عن اللقى لا عن العالم وقوانينه وأعرافه، تبحث عن أثينا التاريخية التي أضعناها، عن متربول العالم القديم الذي فقدناه، عن جوهر العالم العظيم وحكمته ومجده، عن جوهر وجوده وحبه الذي يبتكر العالم، العالم الذي تقف فيه وحيدة فينفتح الشعر أمامها.
* * *
لقد أدركت عند وصولي أثينا سفر الكلمات والفضاءات والعوالم المتنوعة، أدركت الرحلة إلى العالم القديم، الرحلة إلى العالم المجهول، الرحلة الاكتشاف، الرحلة المعرفة.
وقفت أمام بائعة عجوز في كيوسك خشبي في ساحة أمونيا، وسألتها.
"هل لديك خارطة مفصّلة لشوارع أثينا؟".
"نعم.." وناولتني الخارطة، ثم عَدّلت نظارتها على عينيها وقالت:
" ستقرأ الخارطة ومع ذلك ستضيع في شوارع أثينا".
كنت أتصور بأني سأكتشف أثينا من خلال الخرائط والكتب والأوراق، وبعد أشهر ضحكت على نفسي وأصبحت ضائعاً مثل أي ضائع آخر في أثينا.
أدركت أن أثينا لا يمكننا أن نكتشفها إلا من خلال الضياع في شوارعها ومع نسائها وفي قصائد شعرائها، أدركت في أثينا شيئاً من الحس الخالد الذي يتحَدّد على الدوام بلغة كيانه ووجوده. الشعور العظيم الذي يتجَدّد بلغة معانيه ودلالاته، أدركت في أثينا الشعر الخالد والأبدي والذي هو تغير وتجدد وهو اكتشاف ومعرفة، وهو حس ولغة، شعور ووجود. لقد أدركت عند وصولي الأكروبول الجمال الشاحب للشاعرة اليونانية التي لم تفقد الاطلالة الشهوانية لجسدها وعينيها الخضراوين.
* * *
لهب هائل في أثينا الصباح، الوصول من المحطة، والجلوس في مقهى صغير بمقاعد ذات أذرع مكسوّة بالساتان الأبيض مع أريكة واسعة، لهب هائل في لقائي الأوَّل بماريلا التي كانت ترتدي ذلك اليوم ملابس مسرحية، ترتدي الملابس القديمة التي أعادت إلى ذاكرتي ثياب أنتيجون ومصيرها التراجيدي الضائع، ومنذ العبارات الأولى لتعارفنا سحرني حديثها الفاضح الغريب عن جسدها والإباحية الخفية للأثينيين، سحرتني لغتها الفرنسية البالغة الهشاشة، والجارحة بوضوح. ومن النافذة الطويلة، كنا ننظر إلى عابرات السبيل وقد حَقّقن في التنورات المحززات بالدانتيلا الحياة التي لا معنى لها إلا بنفسها، والحماسة المتوقدة التي تحقق في "حب الرجل للمرأة" أكبر المعجزات.
* * *
أثينا التي لا تعرف في الشعر المبالغات، هي التي كانت نائمة مستلقية على البحر، كما رآها سيفيرس مرة فقال لها:
"أنا أعبد الشاعر الذي صنعك هكذا مستلقية على البحر..".
كانت مستلقية على رمال البحر وقد صنع سيفيرس منها شعراً، كما صنع جوليان غراك شعراً من مدينة السرت، ومن أسر أورسينا، ومن البيت الريفي على شاطئ نهر زنتا. تذَكّرت عند وصولي أثينا شعر ريتسوس، تذكرت حنينه الخالد، وارتجافته الأولى، وطاقة فكره. وأدركت طريقين في شعره.. واحد يفضي إلى البحر، وآخر يفضي إلى الأكربول، وأنا بينهما ضائع ومضيَّع.
أدركت في أثينا جوهر الشعر وهو يقترب من السفر والرحلة والإقلاع والطيران والمنفى والتغَيّر والتجَدّد، أدركت جوهر الشعر وهو يقترب من اكتشاف المدن الغريبة والمجهولة والتي نطأها أول مَرَّة في السفر والرحيل، وأدركت جوهر الشعر وهو يقترب من المرأة أيضاً.. المرأة الرحيل، والمرأة المدينة المجهولة التي نرحل إليها بالحب والشعر والسفر.
, Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,
Related Articles