Arabic    

محمد أحمد السويدي - حوار صحفي - جريدة الإتحاد 2023م


2023-10-23
اعرض في فيس بوك
التصنيف : قالوا عنا

 
 
أحمل القارئ معي إلى زمن أبي العلاء المعري، وهناك ستكتشف أن عصره لم يكن يتمتع بحرية مطلقة، وليس السبب في فكر أبي العلاء هو الحرية في عصره، بل إن المعري هو الذي كان متمرداً على قيود عصره، في زمن كان يخطو نحو مصادرة الفكر ومحاصرة الحريات، حتى وإن حدثت بعض الأمور الإيجابية مثل الانفتاح على العالم أو ما يسمى بالمزاوجة الحضارية، لكن حقيقة الوقت أنه كان عصر التقلبات والقيود، وكان الصراع محتدماً بين العباسيين بدولة عميقة مترصدة تطارد كل مخالف لها، والعُبَيْدِيِّين بدولة ناشئة تسعى لفرض أفكارها، فحرمت الأرض في زمنه من العدل كما حرمت من السلم، وهيمن الخراب، والجهل، والتمزق والانحطاط الأخلاقي الذي تسيَّد المشهد في عصره.
على بعد خطوات، كانت أوروبا تتحسس مواضع أقدامها، وبدأت ترنو ببصرها عبر الظلام إلى النور في آخر النفق، وفي توقيت حاسم عاصر المعري إرهاصاته، بدأت فيه الحملات الصليبية التي شنها الغرب، بدءاً من الحملة الأولى (1095-1102م). كانت الأحداث جساماً والمعري يراقبها من حوله تعصف بالعراق والشام وحلب، وقد التقط المعري بشعره صورة لحالة الاهتراء في عصره.
 كل هذا وأبو العلاء شاهدٌ مكلومٌ، يسجل ما يحدث بمدادٍ من الحزن والشقاء، ولعل كتابه المنسي النادر المعروف باسم «رسالة الصاهل والشاحج» الذي صاغه بأسلوب الرمز الأدبي يكشف لنا حقائق تجحظ لها الأبصار.
تأثيرات الأدب العربي.
دراستي لعصر النهضة في أوروبا، ورحلاتي إلى مركز حضارتها في إيطاليا، قادتني إلى فرضية عززت الأيام صحتها حتى أضحيت أميل إلى القول إنه ليس فقط «الكوميديا الإلهية» لدانتي هي التي تأثرت بالأعمال العربية، بل إنّ كثيراً من بواكير إنتاج النهضة الأوروبية تأثرت بالأدب العربي، وإن سنواتي التي قضيتها في تقصي المشروع النهضوي الأوروبي ساقتني إلى مركزها في فلورنسا والتي خبرتها بحثاً وترحالاً، من الأوراق إلى الخرائط ثم إلى الاستكشاف بنفسي وعبر فرق أرسلتها هنا وهناك، لأجدني واقفاً أمام حقيقة مذهلة، وهي أن مركز الحضارة ليس فلورنسا بالأصالة، بل هو استنساخ جاء عبر بوابة أخرى كانت تصهر كل شيء على نار هادئة وتسكبه في أوروبا، وهذه البوابة كانت صقلية، التي حاول المسلمون دخولها منذ عهد معاوية سنة 60 هجرية، وثبتت أقدامهم فيها زمن الأغالبة 184 هـ - 296 هـ، وكانت كالقدر تُطهى فيه مكونات الثقافة والمعرفة القادمة أساساً من العرب والمسلمين ومركزها هو «باليرمو». وقد وصلتُ إليها وقِستُ شوارعها ونقّبت عن تاريخها الناطق بأنها كانت «مغناطيساً» عملاقاً جذب أقطاب المعرفة والمفكرين العرب إليها، ونزح إليها أعلام كان لهم أكبر الأثر في نقل المعرفة إليها، حتى إن علياً بن حمزة اللغوي البصري، وهو صديق أبي الطيب المتنبي، نزح إليها وأقام فيها حتى توفي سنة 375هـ، و«ابن البر» شارح ديوان المتنبي، و«محمد ابن خراسان النحوي» و«إسماعيل بن خلف الصقلي» عالم النحو، و«عبد الله الصقلي» صاحب رسالة علم النبات، والطبيب «أبوبكر الصقلي»، و«أبو العباس أحمد بن عبدالسلام» شارح رسالة ابن سينا، وغيرهم.
لقد وقفتُ أمام علَمين أوروبيين حكما صقلية، الأول هو الملك روجر الثاني 1095-1154م الذي كان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية، وكان طبيب بلاطه الخاص عربياً، ناهيك عن الهندسة والقصور وحتى أنظمة الجيش التي كانت كلها استنساخاً عربياً، وقد دعا الإدريسي وهيأ له كل السبل مدة خمس عشرة سنة حتى أنجز للملك خريطة العالم على دائرة فضية مسطحة تفوق خريطة بطليموس الشهيرة في دقتها.
وأما الآخر فهو الإمبراطور فريدريك الثاني 1194- 1250م، الذي اندفع كآلة عملاقة نحو الكتب العربية يترجمها إلى اللاتينية، ومنها: «كتاب البيطرة» و«شرح ابن رشد»، وهو من طلب الإجابة عن المسائل الصقلية التي أجابه عنها ابن سبعين الأندلسي، وهناك تمت عملية محاكاة كل شيء عربي. ونظم الشعر الغنائي المتأثر بالشعر العربي ليصبح البذرة التي نبت منها لاحقاً ما يعرف باسم شعر التروبادور. ولذا، فأنا وبصدرٍ امتلأت رئتاه بهواء صقلية من شمالها إلى جنوبها عبر رحلاتي المتكررة، أميل إلى القول بأنّ الكوميديا الإلهية تأثرت بـ«رسالة الغفران»، وإنْ حاول المؤرخون الغربيون طمس ذلك، كما لم تفلح محاولات طمس الملامح العربية التي ما زالت في مكونات المطبخ الصقلي، وأسماء أطباقه، وفي جغرافية صقلية وأسماء مدنها وشوارعها وسهولها وجبالها.  
محمد أحمد السويدي - حوار صحفي - جريدة الإتحاد 2023م
#مقتطفات

    أحمل القارئ معي إلى زمن أبي العلاء المعري، وهناك ستكتشف أن عصره لم يكن يتمتع بحرية مطلقة، وليس السبب في فكر أبي العلاء هو الحرية في عصره، بل إن المعري هو الذي كان متمرداً على قيود عصره، في زمن كان يخطو نحو مصادرة الفكر ومحاصرة الحريات، حتى وإن حدثت بعض الأمور الإيجابية مثل الانفتاح على العالم أو ما يسمى بالمزاوجة الحضارية، لكن حقيقة الوقت أنه كان عصر التقلبات والقيود، وكان الصراع محتدماً بين العباسيين بدولة عميقة مترصدة تطارد كل مخالف لها، والعُبَيْدِيِّين بدولة ناشئة تسعى لفرض أفكارها، فحرمت الأرض في زمنه من العدل كما حرمت من السلم، وهيمن الخراب، والجهل، والتمزق والانحطاط الأخلاقي الذي تسيَّد المشهد في عصره. على بعد خطوات، كانت أوروبا تتحسس مواضع أقدامها، وبدأت ترنو ببصرها عبر الظلام إلى النور في آخر النفق، وفي توقيت حاسم عاصر المعري إرهاصاته، بدأت فيه الحملات الصليبية التي شنها الغرب، بدءاً من الحملة الأولى (1095-1102م). كانت الأحداث جساماً والمعري يراقبها من حوله تعصف بالعراق والشام وحلب، وقد التقط المعري بشعره صورة لحالة الاهتراء في عصره.  كل هذا وأبو العلاء شاهدٌ مكلومٌ، يسجل ما يحدث بمدادٍ من الحزن والشقاء، ولعل كتابه المنسي النادر المعروف باسم «رسالة الصاهل والشاحج» الذي صاغه بأسلوب الرمز الأدبي يكشف لنا حقائق تجحظ لها الأبصار. تأثيرات الأدب العربي. دراستي لعصر النهضة في أوروبا، ورحلاتي إلى مركز حضارتها في إيطاليا، قادتني إلى فرضية عززت الأيام صحتها حتى أضحيت أميل إلى القول إنه ليس فقط «الكوميديا الإلهية» لدانتي هي التي تأثرت بالأعمال العربية، بل إنّ كثيراً من بواكير إنتاج النهضة الأوروبية تأثرت بالأدب العربي، وإن سنواتي التي قضيتها في تقصي المشروع النهضوي الأوروبي ساقتني إلى مركزها في فلورنسا والتي خبرتها بحثاً وترحالاً، من الأوراق إلى الخرائط ثم إلى الاستكشاف بنفسي وعبر فرق أرسلتها هنا وهناك، لأجدني واقفاً أمام حقيقة مذهلة، وهي أن مركز الحضارة ليس فلورنسا بالأصالة، بل هو استنساخ جاء عبر بوابة أخرى كانت تصهر كل شيء على نار هادئة وتسكبه في أوروبا، وهذه البوابة كانت صقلية، التي حاول المسلمون دخولها منذ عهد معاوية سنة 60 هجرية، وثبتت أقدامهم فيها زمن الأغالبة 184 هـ - 296 هـ، وكانت كالقدر تُطهى فيه مكونات الثقافة والمعرفة القادمة أساساً من العرب والمسلمين ومركزها هو «باليرمو». وقد وصلتُ إليها وقِستُ شوارعها ونقّبت عن تاريخها الناطق بأنها كانت «مغناطيساً» عملاقاً جذب أقطاب المعرفة والمفكرين العرب إليها، ونزح إليها أعلام كان لهم أكبر الأثر في نقل المعرفة إليها، حتى إن علياً بن حمزة اللغوي البصري، وهو صديق أبي الطيب المتنبي، نزح إليها وأقام فيها حتى توفي سنة 375هـ، و«ابن البر» شارح ديوان المتنبي، و«محمد ابن خراسان النحوي» و«إسماعيل بن خلف الصقلي» عالم النحو، و«عبد الله الصقلي» صاحب رسالة علم النبات، والطبيب «أبوبكر الصقلي»، و«أبو العباس أحمد بن عبدالسلام» شارح رسالة ابن سينا، وغيرهم. لقد وقفتُ أمام علَمين أوروبيين حكما صقلية، الأول هو الملك روجر الثاني 1095-1154م الذي كان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية، وكان طبيب بلاطه الخاص عربياً، ناهيك عن الهندسة والقصور وحتى أنظمة الجيش التي كانت كلها استنساخاً عربياً، وقد دعا الإدريسي وهيأ له كل السبل مدة خمس عشرة سنة حتى أنجز للملك خريطة العالم على دائرة فضية مسطحة تفوق خريطة بطليموس الشهيرة في دقتها. وأما الآخر فهو الإمبراطور فريدريك الثاني 1194- 1250م، الذي اندفع كآلة عملاقة نحو الكتب العربية يترجمها إلى اللاتينية، ومنها: «كتاب البيطرة» و«شرح ابن رشد»، وهو من طلب الإجابة عن المسائل الصقلية التي أجابه عنها ابن سبعين الأندلسي، وهناك تمت عملية محاكاة كل شيء عربي. ونظم الشعر الغنائي المتأثر بالشعر العربي ليصبح البذرة التي نبت منها لاحقاً ما يعرف باسم شعر التروبادور. ولذا، فأنا وبصدرٍ امتلأت رئتاه بهواء صقلية من شمالها إلى جنوبها عبر رحلاتي المتكررة، أميل إلى القول بأنّ الكوميديا الإلهية تأثرت بـ«رسالة الغفران»، وإنْ حاول المؤرخون الغربيون طمس ذلك، كما لم تفلح محاولات طمس الملامح العربية التي ما زالت في مكونات المطبخ الصقلي، وأسماء أطباقه، وفي جغرافية صقلية وأسماء مدنها وشوارعها وسهولها وجبالها.   محمد أحمد السويدي - حوار صحفي - جريدة الإتحاد 2023م #مقتطفات , Electronic Village, His excellency mohammed ahmed khalifa al suwaidi, Arabic Poetry, Arabic Knowledge, arabic articles, astrology, science museum, art museum,goethe museum, alwaraq, arab poet, arabic poems, Arabic Books,Arabic Quiz, القرية الإلكترونية , محمد أحمد خليفة السويدي , محمد أحمد السويدي , محمد السويدي , محمد سويدي , mohammed al suwaidi, mohammed al sowaidi,mohammed suwaidi, mohammed sowaidi, mohammad alsuwaidi, mohammad alsowaidi, mohammed ahmed alsuwaidi, محمد السويدي , محمد أحمد السويدي , muhammed alsuwaidi,muhammed suwaidi,,

Related Articles

محمد أحمد السويدي - حوار صحفي - جريدة الإتحاد 2023م
منازل القمر يضيئ آخر ليالي أبوظبي الدولي للكتاب
اطلاق كتاب منازل القمر لمؤلفه سعادة محمد أحمد السويدي الشاعر الإماراتي.
محمد السويدي يلتقي الفائزين بجائزة
قصيدة خفقة قلب - نسخة من جريدة الاتحاد
واحة المعري - امتداد لمشروع معرفي بدأته منذ التسعينيات
إضاءات من حوار صحفي عن أبي العلاء المعري


Visa_MasterCard

Privacy Policy   Cookie Policy   Terms and Conditions